الاقتصادي - يمتد أغلب البنية التحتية الحالية للغاز الروسي جهة الغرب. لكن لسوء حظ موسكو، يتواجد معظم عملاء غازها حالياً جهة الشرق، وجزء كبير من البنية التحتية التي تحتاجها لنقل إمداداتها إليهم لم تُبنَ بعد. يشكل هذا الاختلاف بين اتجاه خطوط الأنابيب وموقع العملاء -والمرجح أن يستغرق أعواماً لحله- جزءاً من سؤال أهم طرحه هجوم موسكو على أوكرانيا؛ حيث عزلت الحرب روسيا عن أوروبا، أكبر سوق لصادراتها من الغاز. إذاً، ماذا تفعل روسيا صاحبة أكبر احتياطيات في العالم بكل ذلك الغاز الفائض؟
عام 2021، ضخت روسيا نحو 150 مليار متر مكعب من الغاز عبر خط الأنابيب إلى أوروبا، وهو حجم أكبر مما يكفي لتلبية الاستهلاك السنوي لألمانيا وفرنسا والنمسا معاً. شكلت التدفقات إلى أوروبا ثلثي صادرات موسكو من الغاز، شاملة تدفقات الغاز الطبيعي المسال. وحيث إن غزو أوكرانيا أضر بتلك التجارة بشكل حاد، تبحث موسكو عن أسواق جديدة، وتوسعت في أسواق أخرى، وتعهدت بتوفير الغاز لمناطق في روسيا لم تصل إليها الشبكة المحلية بعد.
حتى مع تلك الجهود، لم تجد روسيا عملاء لنحو 90 مليار متر مكعب من الغاز الذي يُضخ عبر خطوط الأنابيب، ما يعادل التراجع المقدر في التدفقات إلى أوروبا في العام الماضي، وهو ما فاقم الضغط الواقع على اقتصادها المثقل بالعقوبات. أدى انهيار أسعار الغاز بأكثر من 50% في العام الجاري إلى انخفاض أكبر في الأرباح. شكل النفط والغاز معاً أكثر من ثلث إيرادات موازنة روسيا قبل الحرب، وبينما استمر تدفق النفط، كان قطاع الغاز الروسي في قلب عاصفة أحدثت انخفاضاً كبيراً في إيرادات الدولة وأكبر منتجي الغاز في البلد، شركة "غازبروم".
تراجع الإنتاج وانخفاض إيرادات الغاز
انخفض إنتاج الغاز أكثر من 13% في الشهور الخمسة الأولى من هذا العام، مقارنة بالفترة نفسها من 2022. وتسببت "غازبروم"، التي صدّرت عبر خطوط الأنابيب الغاز المتجه إلى أوروبا، في معظم هذا التراجع الذي كانت شدته ستتفاقم لولا شركة "نوفاتك" (Novatek PJSC)، أكبر منتجي الغاز الطبيعي المسال في روسيا والتي واصلت إنتاجها بمعدل ثابت، وشركة "روسنفت" (Rosneft PJSC) التي ضخت إمدادات إضافية إلى السوق المحلية.
اتهم الزعماء الأوروبيون موسكو باستخدامها تدفقات الغاز كسلاح في بداية الحرب باستغلالها للذرائع لإيقاف الإمدادات لمعاقبة الدول الداعمة لأوكرانيا. نتيجة لذلك، قفزت الأسعار وملأت أوروبا خزاناتها في فصل الصيف الماضي بالغاز بأعلى سعر لم تشهده المنطقة من قبل، وذلك جزئياً بسبب فرض سقف لتدفقات الغاز المنقول عبر منظومة خط أنابيب "نورد ستريم" الذي تضرر لاحقاً نتيجة لانفجارات، وتوقف إلى أجل غير مسمى في سبتمبر الماضي. ساعد الشتاء المعتدل أوروبا على تجنب أزمة طاقة كبيرة. لكن بالنسبة لموسكو، لم يكن استبدال أوروبا بتلك السهولة. تراجعت إيرادات الغاز 45% تقريباً ما بين يناير ومايو إلى 710 مليارات روبل (8.3 مليار دولار)، مقارنة بالفترة ذاتها في 2022، وفقاً لبيانات وزارة المالية.
صورة أرشفية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين مستقبلاً الرئيس الصيني شي جين بينغ في موسكو، روسيا
صورة أرشفية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين مستقبلاً الرئيس الصيني شي جين بينغ في موسكو، روسيا
المصدر: غيتي إيمجز
بيتر ترتزاكيان، العضو المنتدب بشركة "إيه آر سي فاينانشيال" (ARC Financial)، وهو مستثمر مخضرم في مجال الطاقة، قال: "عندما تُفرض عقوبات على الدول، تكون هناك فترة تكافح فيها للتأقلم مع الوضع الجديد، في البداية. مع ذلك، كلما زادت شدة العقوبات، يزيد إبداع الدولة عادة فيما يتعلق باكتشاف كيفية التغلب عليها"، مشيراً إلى أثر العقوبات الأوسع نطاقاً على القطاع.
سارعت روسيا بتحويل مسارها إلى الصين. ففي وقت سابق من العام الجاري، أعلن الرئيس فلاديمير بوتين أن تطوير مرافق إنتاج الغاز ومعالجته وشحنه في شرق روسيا، قرب الحدود مع الصين، له "أهمية استراتيجية حقيقية". مع ذلك، فشلت زيارة الرئيسي الصيني شي جين بينغ إلى موسكو في مارس في التوصل إلى التزام مباشر من بكين بشراء كمية أكبر من الغاز الروسي.
تحول الكرملين نحو الصين سيتطلب إنشاء خطوط أنابيب جديدة لإكمال خط "باور أوف سيبيريا"، الذي بدأ تشغيله في ديسمبر 2019. تمثل الشحنات إلى الصين جزءاً ضئيلاً من الشحنات التي تدفقت إلى أوروبا قبل الحرب، لكنها زادت ويُتوقع أن ترتفع 42% في العام الجاري لتبلغ 22 مليار متر مكعب، قبل أن تزيد إلى 38 مليار متر مكعب سنوياً بحلول 2025، وهو حجم يكفي لتلبية الاستهلاك السنوي لفرنسا.
صعوبة استبدال أوروبا
قبيل غزو أوكرانيا، وقّعت "غازبروم" اتفاق توريد ثانياً مع الصين، ستسلم الشركة بموجبه 10 مليارات متر مكعب أخرى من الغاز سنوياً على مدى 25 عاماً عبر خط أنابيب آخر يُعرف باسم "طريق الشرق الأقصى"، والذي لم يُبنَ بعد.
المتعاملون يهرعون للتراجع عن الرهانات الضخمة على أسعار الغاز الأوروبية
ما تزال المحادثات حول ما يطلق عليه مشروع "باور أوف سيبيريا 2"، والذي سيضاعف تدفقات الغاز الروسي إلى الصين إلى نحو 100 مليار متر مكعب، في المرحلة الأخيرة لشهور، حسب موسكو. حتى لو توصل الطرفان إلى اتفاق بنهاية 2023، سيستغرق إنشاء خط الأنابيب 5 أعوام على الأقل، ما يوضح الصعوبة التي تواجهها موسكو في استبدال أوروبا بين ليلة وضحاها.
"يبدو أن الصين لا مشكلة لديها في طول فترة المفاوضات، بينما يشكل الوقت عاملاً حاسماً لروسيا، حيث تواجه انخفاضاً حاداً محتملاً في حجم صادرات الغاز"، وفق قول فيتالي يرماكوف، كبير الباحثين بمعهد أكسفورد لدراسات الطاقة.