رغم دراية الحطّاب الغزي، سالم مطر بأن مهنته القائمة على تحويل الأخشاب إلى فحم، لم تعد ذات جدوى، وتقترب من الاندثار، إلا أنه لا يتردد صبيحة كل يوم بالخروج من بيته في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، قاصداً مكان عمله، بدافع البحث عن الرزق وإن كان زهيداً، في ظل غزو الفحم المصري للسوق المحلي.
ويقضي مطر (40 عاماً) برفقة عماله الثلاثة، جلّ وقتهم داخل خيمة صغيرة شيدوها بجوار مفحمته الواقعة بالقرب من الحدود الشرقية للقطاع، إثر تراجع الطلب على الفحم المحلي، أو ما اصطلح على تسميته بـ"الذهب الأسود"، لمصلحة الفحم المصري ذي السعر الأقل والجودة الأضعف.
وبعد تنهيدة طويلة، أطلقها سالم بعدما ارتشف جرعة من الشاي المُعدّ على الحطب، قال مطر لـ"العربي الجديد" كان الفحم الغزي لا مثيل له في فلسطين، ولم يستطع أي فحم مستورد منافسة الإنتاج المحلي، بل لم نكن نستطيع أن نجلس مثل هذه الجلسات من دون عمل، نظراً لكثافة الإقبال والطلبات المستمرة علينا".
ويضيف مطر أنّ الفحم الغزي حافظ على مدار سنوات طويلة، على حضوره القوي في السوق، ولكن منذ اندلاع انتفاضة الأقصى في 28 سبتمبر/ أيلول 2000 أخذت مكانته تتراجع بشكل بسيط وتدريجي، بفعل اندلاع الانتفاضة الثانية والاجتياحات الإسرائيلية المتكررة للمناطق الحدودية، التي كانت تعد المركز الأساسي للمفاحم، مما يؤدي إلى تخريبها أو حرق الحطب من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي.
ويبين مطر، الذي يعمل في مهنة صناعة الفحم منذ نحو عقدين من الزمن، أن الأنفاق التي حفرت بين مدينة رفح الفلسطينية والمصرية، عقب الحصار الإسرائيلي الذي فرض على غزة صيف 2007، إثر تولي حركة "حماس" الحكم منفردة في القطاع، مثلت الضربة القاضية للفحم المحلي، إذ لجأ العديد من التجار، لإدخال الفحم المصري كون أسعاره رخيصة جداً، رغم عيوبه المتعددة، على حد تعبير مطر.
ويواجه الفحم المحلي تحديات ثلاثة، أولها تراجع المساحات الخضراء بسبب الزحف العمراني وتجريف الاحتلال للأراضي الزراعية، وكذلك فرض القوانين الصارمة على عمليات قطع الأشجار، وأخيراً دخول الفحم المصري للقطاع، الذي يباع للمستهلك بنحو ثلاثة شواكل (أي أقل من دولار) للكيلو الواحد.
أما العامل خليل الشنباري الذي شاركنا الحديث، فبين أنّ أسعار الفحم سواء المستورد أو المحلي يعتمد أساساً على نوعية الأشجار، ففحم غزة يستخلص غالبا من أشجار الحمضيات (التي تتوفر بها مادة السبيرتو القابلة للاحتراق)، مما يميزه بسرعة اشتعاله وطول فترة الاشتعال وخلوه من الشوائب، وتبلغ تكلفة إنتاج الكيلو الواحد من أربعة إلى ستة شواكل (دولار إلى 1.5 دولار أميركي)، ولكنه يباع بأقل من سعر التكلفة.
ويقول الشنباري إن الفحم المصري المستورد يعتمد على مختلف أنواع الخشب والأشجار، ويعاني من ضعف جودته وسرعة ذوبانه، إلا أنه مطلوب في السوق المحلي لانخفاض سعره مقارنة بالمنتج المحلي، فيتناسب مع الأوضاع الاقتصادية المتردية للمواطنين في القطاع.
ويشير الشنباري إلى أن مهنة صناعة "الذهب الأسود" كانت تعد مصدر رزق لعشرات العائلات والشباب، وتتميز بانخفاض تكاليف الإنتاج، ولكنها اليوم مهجورة ومصدر خسارة لمن يعملون بها، موضحاً أن المفحمة كانت تنتج في السنوات الماضية نحو 25 طن شهرياً، ولكن اليوم بالكاد تنتج ثلاثة أطنان في الشهر الواحد.
وتبدأ عملية إنتاج الفحم بقص الأشجار أو شرائها وتجميع الحطب في أكوام هرمية الشكل، يتم طمرها بالرمل والقش مع رش كميات قليلة من المياه، ومن ثم مرحلة حرق الحطب وانتظار تحوله إلى اللون الأسود بشكل تدريجي، التي تستمر لعدة أيام، وأخيرا مرحلة تنظيف الفحم وإزالة الأتربة والأوساخ، ليجهز للتغليف ثم البيع.
ونبه الشنباري إلى أن عملية إنتاج الفحم توصف بالخطرة والشاقة، نظراً لقرب المفحمة من مواقع جيش الاحتلال، واحتمال إصابات بعض العمال بالاختناق أو نشوب حرائق كبيرة داخل أكوام الحطب، لذا يتم مراقبة عملية الحرق، عبر ثغرات صغيرة، ينبعث منها الدخان وبتوقفه نعلم أن عملية الحرق انتهت.
ونتيجة لاستمرار دخول الفحم المصري إلى القطاع جنوباً عبر معبر كرم أبو سالم التجاري، الخاضع للسيطرة الإسرائيلية، بعد إغلاق أنفاق التهريب الحدودية، بجانب قلة المساحات الخضراء، أخذت أعداد المفاحم في غزة تتراجع بشكل تدريجي، فمن نحو 15 مفحمة قبل عام 2009، إلى مفحمة واحدة في الوقت الحالي.
نقلا عن العربي الجديد