على الرغم من اعتماد التعديلات التي تم التوافق عليها بين الحكومة والنقابات المهنية إلا أن الحراك الفلسطيني الموحد واصلَ المطالبة بإسقاط قانون الضمان، معتبرًا أنه لا صلة له بهذه التعديلات، وطالب بتطوير قانون العمل لحماية حقوق العاملين.
وهذا كان متوقعًا، فالقضية لا تتعلق بتعديل القانون من عدمه، وإنما بالثقة المفقودة كليًا بالسلطة، لدرجة لا يوجد إطمئنان على أموال الضمان، ولسان حال المعترضين على القانون "عصفور في اليد خير من عشرة عصافير على شجرة السلطة".
إن المسألة الجوهرية التي تواجهنا هي أننا في مرحلة تحرر وطني، ولسنا في مرحلة بناء دولة. فالدولة ليست على مرمى حجر، فهي باتت بعيدة أكثر مما كانت عليه، بعد أن أصبح هناك أكثر من 830 ألف مستوطن يستعمرون الضفة الغربية، ويمضون في تهويدها وأسرلتها، وخصوصًا القدس، ورغم أن الدولة حق طبيعي لا يجب أن يخضع للتفاوض، والدليل أن 138 اعترفت في الجمعية العامة للأمم المتحدة بحق الفلسطينيين بالدولة، ما منحها العضوية المراقبة.
الدولة تعني أشياء عدة، وأهم عنصر فيها السيادة، وهذا بعيد جدًا عن التحقق، و غائب عن السلطة التي هي صيغة من الحكم الذاتي الخاضع للسيادة الإسرائيلية.
إذا تصرفنا على أساس أننا دولة وعزفنا النشيد الوطني واستعرض الرئيس حرس الشرف ووزعنا ألقاب الدولة من صاحب السيادة ودولة رئيس الحكومة ومعالي الوزراء جزافًا لا نصبح دولة حقًا. فهناك فرق حاسم بين حقنا في الدولة وبين تحققها فعلًا الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بإنهاء الاحتلال وتحقيق الاستقلال الوطني والسيادة.
وإنهاء الاحتلال لا يتحقق إلا بالنضال وتغيير موازين القوى على الأرض وجعل الاحتلال مكلفًا لإسرائيل، وهذا يحتاج إلى توحيد الشعب بمختلف قواه وأفراده لا إلى دق الأسافين في صفوفه.
بعد هذه المقدمة نعود إلى قانون الضمان الذي واجه معارضة واسعة غير مسبوقة لم نشهد مثلها من قبل، وهذا يدل ليس على مجرد خطأ تعامل السلطة مع هذا القانون، بل على غباء شديد، بدليل أن الطريقة التي طُرح فيها القانون وكيفية الدفاع عنه استطاعت توحيد أصحاب العمل والعمال والموظفين، رغم تضارب المصالح والتناقضات فيما بينهم.
صحيح أن العديد من أصحاب العمل يعارضون القانون حفاظًا على مصالحهم ولعدم استعدادهم لتلبية حقوق العمال والموظفين، ولكن هذا لا يكفي للوقوف مع القانون.
لم تدرك السلطة الهوة بينها وبين الشعب وأن عدم الثقة ليس في القانون، بل في السلطة التي أقرته، لذلك كل التعديلات التي أجريت أو ممكن أن تجري لا تغير من الموقف شيئًا، ما يتطلب سحب القانون من التداول، والدخول في حوار مجتمعي شامل يهدف إلى تحديد ما نحتاج إليه وما نريد وما الوقت الملائم لتحقيقه.
لقد كان الحافز الرئيسي للإسراع في إقرار القانون، ليس تحقيق التكافل الاجتماعي والحفاظ على حقوق الموظفين والعمال، بل أن لعاب السلطة سال على الأموال الطائلة التي تحتفظ بها إسرائيل كحقوق للعمال الذين اشتغلوا فيها لعشرات السنين، وهي أموال كبيرة رغم تضارب المعلومات حول حجمها، مع أنه ليس من المؤكد أن تقوم إسرائيل بتحويلها إلى صندوق الضمان.
ولمزيد من الفهم لتداعيات وملابسات هذا الموضوع التي وصلت إلى ما شاهدناه من تصريحات مرفوضة لوزير الحكم المحلي والعاصفة الغاضبة عليه التي أطلقت ناقوس الخطر لما يمكن أن يجري، لا بد من التوقف عند سياق اللحظة السياسية الراهنة التي وحدها يمكن أن تفسر ما يحدث، إذ تم الشروع في طرح وتطبيق القانون في أسوأ اللحظات التي تمر بها السلطة، فالسلطة بلا سلطة كما يقول الرئيس محمود عباس مرارًا وتكرارًا، ومصيرها مجهول، فمستقبلها مفتوح على احتمالات أحلاها مر بما في ذلك احتمال انهيارها.
فالفلسطينيون قرروا في المجلسين المركزي والوطني إعادة النظر في العلاقة مع الاحتلال، ووقف التسيق الأمني، وسحب أو تعليق الاعتراف بإسرائيل، وإعادة النظر في اتفاقية باريس الاقتصادية التي كرست تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي، في وقت تمضي إسرائيل مدعومة من إدارة ترامب بفرض الحل الإسرائيلي على الأرض، الذي لا يتسع لأي حق من الحقوق الفلسطينية، وفصل القطاع عن الضفة تمهيدًا لابتلاع معظمها، ويتضمن تحويل السلطة إلى كيان حكم ذاتي أكثر خضوعًا لإسرائيل من دون وجود أفق سياسي، لدرجة أن الرئيس قال في لقائه مؤخرًا مع الكتاب والصحافيين المصريين أن الذي يقول بإمكانية قيام دولة فلسطينية خلال السنوات الخمس عشرة القادمة كاذب.
هذا في نفس الوقت الذي يستمر فيه الانقسام ويتعمق أفقيًا وعموديًا، ومفتوح على احتمال التحول إلى انفصال، وإلى المساعدة على فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية من خلال إقامة "دويلة" في القطاع، وتمكين إسرائيل من ابتلاع الضفة.
ويزيد الطين بلة أن النموذج الذي إقامته السلطة لا يوحي بالثقة ولا يدعو إلى الاطمئنان، فمن جهة هناك نزعة تسلطية استبدادية فردية جمعت كل الصلاحيات وتهيمن على كل السلطات، في ظل استمرار انتهاكات حقوق الإنسان، وانتشار الفساد، وتراجع القضاء الذي لم يعد مستقلًا منذ زمن، وحل المجلس التشريعي من دون ضمانات بإجراء انتخابات حرة ونزيهة في الضفة، بما فيها القدس والقطاع، ولا ضمان احترام نتائجها إن جرت من دون تزوير داخلي أو مصادرة لنتائجها من قوات الاحتلال، كما حصل بعد الانتخابات السابقة، وبمشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي التي تؤمن بالمشاركة.
فكيف يمكن الإقدام على خطوة بهذا الحجم (إقرار قانون الضمان) من دون اطمئنان لإمكانية حمايتها، وخصوصًا أن الوضع الفلسطيني مفتوح على كل الاحتمالات، بما فيها احتمال انهيار السلطة والتهجير، بما في ذلك بروز مقدمات للصراع على الخلافة من دون الاتفاق على آلية انتقال السلطة. كما أن أي مرسوم رئاسي بقانون سيكون ضعيفا ومهددًا بإقراره أو إلغائه بأول جلسة يعقدها البرلمان الجديد.
وما أضعف موقف السلطة أنها عاندت وركبت رأسها بالتمسك بالقانون رغم المعارضة شبه الجماعية في نفس الوقت الذي التزمت بأن أي تعديلات سيتم إجراؤها بأثر رجعي، وهذا أضعف موقفها، فبدلًا من هذا العناء كان ولا يزال الأفضل سحب، أو على الأقل، تجميد القانون إلى حين الاتفاق على توفر ظروف مناسبة لإقراره وتطبيقه، ويمكن أن تعتبر حل المجلس التشريعي مخرجًا مناسبًا للتراجع.
ولا ننسى أن في الذاكرة أن صندوق التقاعد للموظفين العموميين خاويًا منذ فترة طويلة، إذ لا يوجد ما يمنع أن يكون مصير صندوق الضمان مختلفًا.
لا يوجد قانون أهم ولا مقدس أكثر من الحفاظ على السلم الأهلي الذي بات مهددًا في ظل الإصرار على المضي في تطبيق هذا القانون. أقول للسلطة العناد كفر، ويكفي الخسائر المتحققة حتى الآن، فالفلسطينيون بحاجة إلى كل ما يجمعهم لكي يواجهوا التحديات والمخاطر الجسيمة وتوظيف الفرص المتاحة ويكفيهم ما يعانوه من انقسام وشرذمة.
في ظل غياب الانتخابات والمؤسسات خصوصًا المجلس التشريعي، وعدم الثقة بالحاضر والمستقبل، لا ضامن لقانون الضمان، وفي مثل هذه الأوضاع رضا الناس والتوافق الوطني مصدر شرعية أي سياسة وأي قانون، وهذا يتطلب سحب القانون من التداول والاستجابة لمطالب ومصالح الناس وليس إجبارهم على الخضوع لأمر يمس شؤون حياتهم الأساسية.