نابلس - الاقتصادي - (الجزيرة نت) - بينما تجوب حنان وختام أبو جيش جبل "الموقعة" لرعي أغنامهما كانت رسمية وبهية تتدبران شؤون المنزل والبركس (حظيرة المواشي) الخاصة بهن شرق بيت دجن قرب نابلس في الضفة الغربية.
يبدأ نهار الشقيقات الأربع أو "راعيات الشرق" كما يعرفن بقريتهن في الثامنة صباحا، وتباشر كل واحدة مهمتها بحرص شديد في العناية بأغنامهن سعيا في طلب عيش كريم يكفيهن شر المسألة.
تبدو حنان وختام وهما تتنقلان من أعلى الجبل لأسفله لجعل القطيع في بقعة رعي محددة، تتقنان المهنة جيدا وتعرفان أسرارها، فهما تكابدانها منذ 13 عاما، حيث آلت إليهما إرثا من والدهما وراحتا تتابعانها بنفسيهما.
تعلو قمة الجبل هذه الأيام ألوانا مختلفة من الربيع، وعلى "راعيات الشرق" السير باكرا للوصول للمرعى، فهي فرصة للتخفيف من عبء إطعام الماشية في البيت المكلف كثيرا، وهي أيضا وسيلة لاقتناص موضع قدم لهن ولأغنامهن بين رعاة آخرين يحتلون وأغنامهم جزءا كبيرا من المكان.
تمسك ختام (55 عاما) أنبوبا بلاستيكيا مثقوبا من الطرفين دسَّت بداخله عصا خشبية تزيده قوة للهش على أغنامها ومآرب أخرى تكمن بقتل القوارض والزواحف الخطرة، وتتكئ عليه أيضا لتريح جسدها المنهك في ملاحقة الأغنام اللاهثة بحثا عن الدسم من العشب.
تحدق الشقيقتان أيضا بعينين حادتين تحركات القطيع، وتصرخان عليه بكلمات مثل "حي" وتقال للأغنام (الخراف) و"سك" للماعز منعا لابتعادها، مستعينتين بحجارة صغيرة تلقمانها صوب القاصية منها لثنيها عن الاختلاط بالمواشي الأخرى.
ونظرا لعددها الذي يفوق السبعين رأسا يصعب أيضا تسميتها -تقول ختام- وهو أمر دأب عليه أصحاب الماشية، حيث يُسمون بعض مواشيهم وتُزَّين بالأجراس الرنانة وقلائد القماش الملون والمزخرف مما يُسهِّلُ مناداتها والعثور عليها إذا ما تماهت بطريق الخطأ داخل قطيع آخر.
قساوة المهنة
ورعي الأغنام مهنة تقتصر على الرجال وتتطلب خفة وسرعة بالتنقل، وهو ما تمرَّسته حنان وختام دون أن تثقل كاهلهما "زوادة" الطعام، فقد حظيتا بحقيبة مدرسية تخلت عنها إحدى الطالبات، تحملها ختام على ظهرها وبداخلها عبوة ماء وقليل من الجبن والخبز الذي لا تجد الراعيات الأربع متسعا لتناوله جلوسا، فيأكلنه على عجل وهن يركضن خلف أغنامهن، يساعدهن أحذية بلاستيكية محلية الصنع ينتعلنها بأقدامهن وتجنبهن خطر الانزلاق فوق الصخور.
وحذرا من كل شيء قد يفتك بالغنم، تبقى الشقيقتان متنبهتين كالذئاب أو من هم أخطر منها "كالمستوطنين وجنود الاحتلال" تقول ختام وقد تلثمت بمنديل إضافي فوق خرقتها خشية نزلة هوائية باردة.
وتردف أن الاحتلال حوّل جبل الموقعة للتدريب العسكري ومحمية طبيعية يحرم بموجبها جني أعشاب برية كالعكوب -وهو نبات شوكي غالي الثمن يستخدم في الطبخ والزعتر الأخضر- وهو ما كان يوفر لهن دخلا يسيرا.
وتحرص حنان (53 عاما) للبقاء جانب شقيقتها زيادة في الأنس والأمن خاصة بمثل هذه الأيام التي تطول بها فترة الرعي منذ الصباح وحتى المساء، وليس كفصل الصيف حيث تشتد الحرارة وتقحل الأرض "وتبرح الأغنام منازلها" تقول حنان، وتضيف أن لدى شقيقتها ختام هاتفا خلويا أيضا يسعفها بأي اتصال طارئ.
وحالما تستعد الراعيتان للعودة للمنزل تسلك الأغنام العائدة بطانا طريق الإياب وحدها، يشدها الحنين لمواليدها الجدد ووجبة المساء التي أعدتها رسمية وبهية (65 و63 عاما) داخل "الجابيات" وهي قنوات حديدية يوضع بها طعام الماشية.
لا تلبث رسمية وبهية اللتان شغلهما تنظيف المنزل والحظيرة طوال النهار أن تباشرا "بتعريب" (فصل) الخراف الصغار عن أمهاتها التي هرعت للرضاعة فور وصولها، ثم تشدان بيديهما وبطريقة فنية ضروع الشياه لإخراج حليبها والاستفادة منه في تصنيع الجبن منه وبيعه.
وتتكامل بهذا وظيفة الشقيقات الأربع اللواتي لا يمتهنَّ سواها، فهن لم يحظين بزواج أو تعليم، في وقت تشير فيه إحصاءات رسمية لارتفاع معدل البطالة (47.4%) بين النساء المشاركات بالقوى العاملة.
ولا تعيش النساء ترفا أيضا، فإلى جانب "البركس" شيَّدن غرفة سكنية بجدران أسمنتية وسقف من الصفيح "خشية الهدم" واتخذن من الحطب موقدا لطهي الطعام وغسل الملابس.
في الأثناء يتولى عبد الكريم أبو جيش (27 عاما) ابن شقيقهن تطبيب الأغنام والشؤون المالية ويقوم بتسويق منتجهن من الجبن والخراف وشراء الأعلاف التي تستعر أثمانها، ويقول إن كل الظروف المحيطة من غلاء العيش وتنغيصات الاحتلال تحاول النيل من عماته وهدم صمودهن.
ويخطرهن الاحتلال بالهدم لوجودهن بمناطق "ج" التي يسيطر عليها أمنيا وعسكريا، لكنهن أرجأن إخطار الترحيل بدفع ألف دولار غرامة لحين انتظار المحكمة.
ويقول الناشط ضد الاستيطان بالقرية محمد أبو ثابت إن الاحتلال هدم منزلين وحظيرة بجانبهن ويخطر بإزالة سبع منشآت أخرى وشبكة الكهرباء الوحيدة.
وفي مشهد يعكس رسائل عدة، تبتسم الشقيقات الراعيات لكسر بؤس حياتهن الصعبة عبر مهنة وجدن فيها انتصارا لذاتهن على تقاليد عسيرة.