رام الله - الاقتصادي - (العربي الجديد) - توفي في لندن، أمس الإثنين، رجل الأعمال الفلسطيني عبد المحسن القطان، عن 88 عاماً، أحد المؤسسين التاريخيين لمنظمة التحرير الفلسطينية، والرئيس الأول للمجلس الوطني الفلسطيني، مخلفاً تجربة نضالية ملهمة، جند خلالها المال في خدمة قضية وطنه وشعبه، بعدما حسم خياراته لصالح العمل الخيري على حساب السياسي ودهاليزه.
الرجل الذي فارق الدنيا ثرياً، خبر مذاق الفقر، شأنه في ذلك شأن الغالبية العظمي من اللاجئين الفلسطينيين، رأى في التعليم سبيلاً للنجاة من الفقر ووسيلة لإنتاج وعي وطني، وهو بخلاف كثير من الأثرياء الفلسطينيين سخر ثروته لمساعدة الفلسطينيين في الأرض المحتلة والشتات، مركزاً على الإصلاح التربوي والثقافي.
ولد القطان في مدينة يافا في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 1929، لأب يعمل في تجارة البرتقال وأم تتحدر من مدينة اللد من أبوين مصريين استقرا في فلسطين.
التحق الطفل بالمدرسة الأيوبية في يافا، وانتقل، عندما بلغ خمس عشرة سنة، للدراسة في الكلية العربية بالقدس، التي كان يديرها آنذاك خليل السكاكيني. ويبدو أنّ هذا الأخير ترك بصمة كبيرة على تلميذه، الذي استلهم في العام 1999 خلال خطاب تسلمه شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة بيرزيت، يوم زار القطان فلسطين للمرة الأولى منذ النكبة.
حلت النكبة بينما كان الشاب يدرس العلوم السياسية والاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت، ولم يلتق بأسرته التي خاضت رحلة اللجوء، وخاض هو رحلة اللحاق بها، إلّا أوائل العام 1949، بعدما استقرت في الأردن.
كانت عائلة فقيرة معدمة، وكان محط آمالها، فغير تحت تأثير الفقر مساره الأكاديمي من السياسية والاقتصاد إلى إدارة الأعمال المجدية مالياً.
عاد إلى الأردن ليعمل مدرساً في الكلية العلمية الإسلامية، وبعد أقل من عامين، تعرض خلالها، وهو المعبأ بالمشاعر القومية، للمطاردة من المخابرات الأردنية، غادر إلى الكويت بحثاً عن الثروة التي تحققت لاحقاً.
تزوج في الكويت من المدرسة ليلى، وهي ابنة رئيس دائرة التربية آنذاك، درويش مقدادي، وهناك عدل مساره من جديد؛ فانتقل من التدريس ليشغل منصب مدير عام وزارة المياه والكهرباء الكويتية، ولم يمكث طويلاً، فأسس في العام 1963 شركة للإنشاءات والمقاولات أصبحت من أكبر شركات الكويت، ليبدأ مسيرته في العمل الخيري من خلال منح التعليم للاجئين الفلسطينيين.
وفي الكويت، التي حمل جنسيتها، بدأ مسيرته السياسية، عندما ساهم إلى جوار أحمد الشقيري في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وقدم لها الدعم السياسي والمالي، وهو الدعم الذي استمر حتى بعد التغيرات التي طرأت على قيادتها أعقاب هزيمة 1967.
حضر القطان في المشهد السياسي، عندما انتخب في العام 1969 أول رئيس للمجلس الوطني الفلسطيني، وهو المنصب الذي تخلى عنه بعد أيام، إثر فشل أجنحة المنظمة في الاتفاق على إدارة موحدة لمصادرها العسكرية والمالية. رغم ذلك، لم يغادر بعيداً، فقد بقي عضواً في المجلس حتى استقالته في العام 1990، احتجاجاً على مساندة المنظمة للرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، بعد اجتياحه الكويت.
في النتيجة، غادر القطان العملية السياسية، والتفت للعمل الخيري الذي بات يتوسع فيه بشكل أكبر، حتى كرّسة في العام 1993 بشكل مؤسسي؛ عندما قام بتسجيله في العاصمة البريطانية عبر مؤسسة تنموية غير ربحية تعنى بتطوير الثقافة والتربية في فلسطين والوطن العربي، وهي "مؤسسة عبد المحسن القطان".
وفي أعقاب اتفاق أوسلو تجنب المليونير أي عمل تجاري ضمن مناطق السلطة الفلسطينية، مركزاً على دعم المؤسسات الثقافية والبحثية.
وتضم المؤسسة التي بلغت موازنتها السنوية 2.2 مليون دولار، مركز القطان للبحث والتطوير التربوي، ومركز القطان للطفل في غزة، وبرنامج الثقافة والفنون. كل مركز منها ساهم في تطوير العملية التربوية وتعزيز المشهد الثقافي، دون أن يقتصر عمله على الشعب الفلسطيني -وإن كان أولوية- بل شمل العالم العربي برمّته.
حافظ القطان، خلال سنوات حياته الطويلة التي تلت اعتزاله العمل السياسي، على مسافة بعيدة عن السياسة، لكنه عاد وأطل على المشهد بكلمة مصورة أمام مؤتمر "فلسطينيو الخارج" الذي عقد في مدينة إسطنبول في فبراير/شباط الماضي بهدف إصلاح منظمة التحرير، كما ساهم في تمويل المؤتمر الذي حضره أكثر من 5 آلاف فلسطيني من الداخل وجميع دول الشتات.
يرحل الرجل وقد أصبح أنموذجاً في التزام الأثرياء بقضايا وطنهم وشعبهم؛ أنموذج يتمنى فلسطينيون كثر أن يحذو الأثرياء من أبناء شعبهم حذوه.