محمود سنقرط
كان لقاء عن طريق الصدفة جمعني بأحد كبار السن ، تحدثنا فيه عن الأمثال الشعبية واستوقفني مثل شعبي فلسطيني قيل قبل عشرات السنين هو "شعيرنا ولا قمح غيرنا " حيث توقف بي الزمن عند هذا المثل الذي يعتبر قاعدة اقتصادية لأي مجتمع بل ربما تجاوز ذلك ليشكل مرجعية اقتصادية لأي فكر اقتصادي في العالم لأننا نرى أن معظم دول العالم تسعى في سياساتها الاقتصادية إلى تحقيق امن غذائي واكتفاء ذاتي ، ولعل الزمن توقف بي مرة أخرى عندما تذكرت بان هذا المثل قيل على هذه الأرض حيث انطبق مغزاه على معظم دول العالم إلا هذه الأرض.
هذه قضية من قضايا الشعب الفلسطيني المعقدة التي تمثل بشكل عام واقع الحياة والتي تهم المواطن الفلسطيني الذي أصبح مستهلك من الدرجة الأولى ، لدرجة أنه لم يستطع حتى إنتاج الشعير قبل أن يستورد القمح ، وأتمنى أن يقف الموضوع على الاستهلاك فقط ، بل أصبحنا نستورد ونستهلك السلع الرخيصة قليلة الجودة والتي لا تصل إلى العمر الافتراضي المخصص لها وهذا كله نتيجة أسباب كثيرة أهمها هو وجود قوانين خجولة تصدر بين الحين والأخر لتنظيم عملية الاستيراد ومن وجهة نظري أنها تأتي "رفع عتب" لكثرة المطالبة بها من المؤسسات والجمعيات والجهات المسئولة .
وعندما أتحدث عن سلبيات الاستيراد يتهمني البعض بالجنون بأنني غير واقعي أو بأنني لا أدرك تماما ما يجري على ارض الواقع ، أو بأنني تناسيت الاحتلال ومعيقاته ، وقد يذهب البعض الأخر إلى ابعد من ذلك ويصفني بأني شخص عكس التيار ، ولا أريد لهذا البلد أن يتقدم أو يتحضر ويعيش برفاهية الدول الأخرى ، ولكن جميعهم يجمعون على الاستهزاء بي عندما أتحدث وأدافع عن المنتج الوطني أوعندما أطالب بحماية ورعاية لمنتجنا الفلسطيني .
ولكن في الحقيقة قضية الاستيراد أصبحت عبء أثقل كاهل الاقتصاد الفلسطيني قبل أن يرى النور ، حيث أنها ساعدت على تفشي البطالة وانعدام فرص العمل واستمرار استنزاف الأموال وتصديرها للخارج بدلا من أن نقوم باستثمارها محليا ، وهذا يؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد المحلي وأيضا على المواطن الفلسطيني ، فعلى سبيل المثال عند استيراد حاوية مليئة بالسلع من الصين فإن ذلك كفيل بجعل ثلاثين شخصا عاطلين عن العمل لمدة ستة شهور كحد أدنى ، ولكن السؤال المطروح ألم يع صانعو القرار أو حتى التجار التبعات المترتبة على ذلك ؟ أم أن هناك وعي ولكن لدى فئة قليلة من هؤلاء لا تملك القدرة على التغيير؟؟
ومن ناحية أخرى ، لو نظرنا إلى معدلات الاستيراد في الآونة الأخيرة نجد أن معدل البضائع المستوردة في عام 2010 قد ازدادت بنسبة 9.9% مقارنة بعام 2009 ، بحيث بلغ إجمالي قيمة البضائع المستوردة من جميع أنحاء العالم ما يعادل 3 مليارات و958 مليون دولار ، وبالمقابل انخفضت قيمة الصادرات في نفس العام بنسبة 2.9% مقارنة بالعام الذي سبقه ، وباعتقادي أن أسباب هذا الانخفاض واضحة للجميع ، وهي تتمثل بإغلاق العديد من المنشات الصناعية التي كانت تحاول أن تضع اللبنة الأساسية في عملية بناء اقتصاد وطني حر يحميها ويحمي المواطن ، وهذا الإغلاق نتيجة لعدم وجود مقومات الصمود الأساسية وعدم وجود محفزات لبقائها سوى الروح الوطنية التي يتحلى بها بعض مالكيها .
هذه هي قضيتي وقضية كل مواطن يحلم بأن يكون له وطن حر ، واقتصاد حر ، ومن حقي ومن حق غيري أيضا أن نفكر فيها مليا وأن نحاول أن نبقيها على سلم أولويات الجميع لأنها مسؤولية الجميع دون استثناء، فالمواطن يجب أن يتحمل مسئولياته في دعم المنتج الوطني ، والتاجر عليه الاقتناع بأن هناك واجب وطني أولا ومسؤولية اجتماعية تجاه أبناء شعبه تتمثل في توفير فرص عمل بدلا من تسريح الموظفين من أجل القيام بعملية الاستيراد لأنها تحمل منفعة أكبر، والمسؤولية الكبرى تقع على صانعي القرار في الدرجة الأولى من أجل تغيير الواقع بقرارات حاسمة تنظم وتقنن عملية الاستيراد وتشجع الاستثمار لعلنا نستطيع الوصول إلى مرحلة ينطبق فيها هذا المثل الشعبي على ارض الواقع بدلا من أن يبقى مجرد مثل.