مصائر ثلاث شقيقات فلسطينيات في الغربة، خبرت أسرتهن اللجوء من صفد، واستقر بها الحال في سعدنايل اللبنانية، قبل ان ينتهي بهن المطاف في الدنمارك
كان يمكن للأخوات للفلسطينيات الثلاث ميسون وميسم ومسار، أن يكبرن في الولايات المتحدة، حيث كان من المفترض أن والدهم الأستاذ الراحل محمود عمر "أبو مجدي"، الذي درّس العربية لأجيال في الغربة، في طريقه إليها في العام 1989من سعدنايل في لبنان، لكنه غير مساره باتجاه الدنمارك وهو يأمل أن يستكمل الدكتواره فيها أو يبقين في لبنان كلاجئات يدرسن أيضا ربما الطب، "لكن، ماذا كانت ستكون النتيجة وأنت ممنوع من مزاولة مهنتك؟" تسألن وهن راضيات عن اختيار الأهل لجغرافيا الشمال الأوروبي.
أخوة ثلاث كن في العاشرة والتاسعة والعام ونصف العام حين التحقن بوالدهن في الدنمارك رفقة والدتهن. 26 سنة مرت قبل أن نصبح اليوم أمام ثلاث طبيبات في مجتمع غربي يتحدث يمينه عن "استحالة اندماج العرب والمسلمين فيه".
بحيوية وثقة يناقشن تاريخ مرَا، تتداخل طفولة "سعدنايل" عند الكبيرتين بحياة غربة عجن فيها والدين بخميرة يتفاخر الثلاثة بها ومسار لا تذكر سوى طفولة هذه البلاد التي كبرت فيها. في منزل محمود عمر "الأستاذ أبو مجدي"، "كانت حرية الاختيار حاضرة في إطار ثقافة تغرف من أخرى إيجابياتها دون خوف بل بثقة الوالد والوالدة"، تقول الابنة البكر وطبيبة الأسنان ميسون عمر.
ما تكشفه الأخوات بدأ كنقاش منهجي في أحد مقاهي عاصمة ثقافة المملكة التي اختارها والدهن الراحل قبل سنوات، قبل أن يصير تلقائيا حيث "لن يمر عام من سنوات حياتنا دون زيارة إلى كل من سورية ولبنان، فهناك نتعرف على تلك الثقافة والحضارة التي حملها والدانا في جعبتيهما" تجمع الأخوات، وهن يحدثنك فجأة عن بلدهن الأصلي في فلسطين "نحن من مغار الخيط بقضاء صفد، بلدنا الأصلي فلسطين وسنبقى، وفيها زرنا مسقط رأس أجدادنا وأقاربنا" وإحداهن تزوجت من أم الفحم.
كلما بحثنا عن الاختيار، في محاولة فهم كيف أن أختين اختارتا الطب قبل أن يتوفى أبوهما، ثم تلحق بهما أختهما مسار، التي تصغرهما بسنوات بعد وفاة الوالد، تعود الأخوات إلى الأصل: "في البيت كان الأساس، لم يطلب والدنا أن ندرس شيئا محددا، هو كان مدرسا للغة الإنكليزية في الأونروا قبل هجرته، ساعدنا في تعلم العربية واجباتنا حتى في الرياضيات، لكنه أبدا لم يقل ما يجب أن ندرس. توقع أن نلتحق بالجامعة كسلاح لمستقبلنا... لكن ليس شرطا الطب". ليس لوالدينا أبناء "صبيان" فجعلا كل الاهتمام أن نصبح متحملات لمسؤولية كبيرة في غربتنا.
تتذكر ميسون ذلك اليوم الذي تخرجت فيه: "تأبطت بساعد أبي فرحة بأني أصبحت طبيبة أسنان وأقول له أصبحت دكتورة بابا. قال لي حرفيا: استمعت إليك الآن... لا تكرري هذا الكلام مرة أخرى... أنت طبيبة لنفسك وللناس وليس لقول ذلك... فهمت ما قصده على الفور".
تقفز الخلفية الأسرية والأكاديمية للوالدين دائما وهن يتحدثن عن تلك الظروف التي سمحت لهن بكثير من النقاش والجدال حتى بينهن وهن يحاورن "العربي الجديد"، وبما فيه الاختلاف في الرأي.
سنوات من الثقة
يخبرن عن منتصف التسعينيات، حيث تكاثر المهاجرون في المنطقة التي يعيشون فيها وتسمى "برابراند"، والمرتبطة بالإعلام بكثير من السلبية، كسنوات الثقة التي منحها الوالدان لأخوات ثلاث لا يملكان غيرهن "فنحن كنا نشارك بكل شيء في المدرسة مع حوار كامل عن الصح والخطأ، لم نُمنع من دروس الدين المسيحي والسباحة وكل الواجبات التي يتردد بعض الأهل في الغربة بالسماح لأطفالهم ممارستها". تضيف الأخوات وبحماسة النقاش الداخلي فيما بينهن: "تلك الثقة جعلتنا نصبح أكثر مسؤولية، أكثر انفتاحا بلا أسرار. لم يكن في غرفتنا تلفاز مستقل، بل تلفاز مشترك نجلس جميعا ويشجعنا الأهل على الجلوس مع الضيوف ونستفيد من النقاش... كانت "الجزيرة" قد بدأت تبث في تلك الفترة وكنا نتابع كل شيء عن فلسطين وحرية التعبير فتعلمنا أن نقول رأينا بصراحة مع احترام آراء الآخرين".
لا شيء خاصا دفع الأخوات لأن يكن طبيبات، لكن ميسون التي تخرجت طبيبة أسنان في 2005 استلهمت الأمر من جارتها التي دخلت كلية طب الأسنان، فيما في الصف العاشر كانت تفكر بالهندسة الوراثية. ميسم اختارت الطب البشري في جامعة "آرهوس" لتنهي دراستها في 2008 وتبدأ رحلة العمل. الأختان وبالرغم من الدراسة والعمل لدى كل منهما 3 أطفال الآن، ولكنهما كلما عادتا بالذاكرة إلى الوراء تذكرتا تلك التضحيات التي قدمتها الأم لهن "لقد ضحت بكل شيء، كانت مدرسة وأكاديمية لكنها لم تستطع حتى أخذ رخصة قيادة سواقة في الغربة... وقتها كله كان لنا، لم تهتم كثيرا بنفسها... حتى إلى جانب الدراسة علمتنا أن نكون يوما أمهات" تقول ميسم وهي تضحك: "لقد وضعت أنا وميسون أطفالنا الستة عندها لنلتقي الآن وأعطيناها حبة مضادة للجلطة...".
لم تكن الرحلة سهلة على شابات من أصل عربي في مجتمع غربي، وهن يتحدثن مرارا عن "التوازن والجهد المضاعف" ودور الأهل في إسنادهن، فمسار الأخت الصغرى (مسار) والتي تخرجت في يناير/كانون الثاني 2015 تتحدث عن الهوية والثقافة مذكرة: "حين كنت أزور الشام ولبنان فقد كانوا ينظرون إلي كدنماركية، وحين أعود إلى هنا ينظرون إلي كعربية... لكنني في النهاية أفهم شيئا واحدا: لم أتربّ على الانغلاق بل على الثقة بمن أكون، كمسلمة وفلسطينية ودنماركية... آخذ الإيجابي من ثقافتين وأمزجهما لتكون شخصيتي على ما أنا عليه..". تتدخل ميسون: "رغم ذلك لم نشعر بانفصام أو أزمة هوية، ولم نتزمت دينيا ولا نتنازل عنه بنفس الوقت مهما كانت الظروف، لكن دون أن نستعلي على البشر ومحيطنا".
لا ينتهي النقاش بين الأخوات حول قضية الهوية والاندماج في مجتمع غربي، ليتفقن على قضية أن الفشل عند البعض في الغربة يقوم على المزج بين سلبيات ثقافتين وتيه يعيشه البعض.
وبالرغم من بعض التمييز الذي تشعر به ميسم، التي ستبدأ التخصص بقسم الأطفال من الشهر المقبل، إلا أنها تعود لتقول: "أنا أفتخر بأني عشت في عائلة منفتحة". ذلك الأمر ينسحب على ميسون التي تضيف "لا يمكنني أن لا أستمتع بفيروز وأم كلثوم، أحدث محيطي بأني أختلف ثقافيا لأنه لم يكن عندي من خيار مثلهم/مثلهن فلم يكن لي أب يقرأ لي هانس كريستيان أندرسن، أمي عربية رغم نشأتي بينهم يحترمون بأنك لست شخصا مشتت الهوية بل تعرف هويتك".
مسار، الطبيبة الأصغر التي ستبدأ التخصص بالقلبية، وهي التي كانت "مدللة أبيها" تبتسم حين تنظر إلى ميسون وتقول لها: "أستغرب من البعض، على كتفه وشم حنظلة، لكن ممارساته كلها تشير إلى أنه لا يعرف كيف يكون... أنا أيضا بنت برابراند... في الجامعة حين درست ميسون لم يكن عدد العرب سوى اثنين... لكن في دفعتي أكثر من 8 من الفلسطينيين والعراقيين، أجد علاقتي بهم حتى بعد الدراسة أفضل من علاقتي بالدنماركيين... أفضل أن تكون علاقتي بمثقفين واعين من العرب".
تذهب الأخوات في نقاشهن أيضا إلى وضع جاليات العرب فيقارن بين جاليات وأخرى حيث تأملن بأن السنوات سوف تحمل تطورات إيجابية، بدأت ملامحها، فالمقارنة تجري بين جالية في بريطانيا والدنمارك من حيث ظروف الهجرة وطبيعة الناس المهاجرة.
العربي الجديد