بعد طول انتظار، جاءته الفرصة سانحة، إذ تحركت الدبابة الإسرائيلية التي كانت تحتل أرضه الزراعية على حدود غزة، حينها أسرع المزارع الفلسطيني، يوسف المصري، إلى أرضه المهجورة، استقل جراره الزراعي وقرر المغامرة، خلال ساعة ونيف، كان قد انتهى من تقليب الأرض بواسطة محراثه، وبذر حبوب الشعير في الأرض الرطبة، ثم غادر مسرعاً، قبل عودة الدبابة مجدداً، إذ قد تباغته بإطلاق النار.
مزارعون على خط النار
المصري واحد من بين 1500 عامل زراعي فلسطيني، ممن يواجهون خطر البنادق الإسرائيلية بشكل يومي، لوقوع أراضيهم على خط التحديد أو ما يسمى بـ "خط الهدنة"، مع الاحتلال، ووفقا لعبد الستار شعث رئيس الاتحاد العام للفلاحين الفلسطينيين في غزة، فإن عدد المزراعين في تلك المنطقة كان 8 آلاف فلاح، ثم تراجع تدريجيا.
في سبيل لقمة العيش، يخاطر المصري وأقرانه، بالوقوف في وجه الاحتلال لزراعة أراضيهم الممتدة على مساحة 35 ألف دونم (الدونم يساوي 1000 متر مربع)، يقول المصري لـ"العربي الجديد": "أرضي جرفت مرتين، الأولى في عدوان 2009، وقتها خسرت أكثر من مائة من أفضل أشجار الزيتون المثمرة، ثم عاود تهيئة الأرض وتجهيزها لزراعتها بمحاصيل موسمية مثل الطماطم والخيار، لكن جرفت مرة أخرى في العدوان الماضي 2014".
فشل المصري في مقاومة إغراء العمل في أرضه بعد الهطول الغزير للأمطار، إذ تمتد المساحة المزروعة على مياه الأمطار شرقي غزة (زراعة بعلية) إلى 12 ألف دونم شتاء، وتقل صيفا، لشح الماء.
العمل تحت تهديد الرشاشات
عبر جولة ميدانية، وثق معد التحقيق، معاناة فلاحي شرق القطاع المحاصر من الأبراج القاتلة ونقاط مراقبة جيش الاحتلال، المزودة برشاشات وقاذفات تطلق النار تجاه كل شخص يحاول الاقتراب من المنطقة القريبة من خط التحديد، ما يشكل خطرا حقيقيا على حياتهم، من هؤلاء المزارع إبراهيم النجار، الذي يودع عائلته، كل صباح متوقعا أن يأتي يوم لا يعود فيه، بسبب نقاط مراقبة الاحتلال، يقول النجار: "ليس لدي خيار، الزراعة حرفتي الوحيدة، التي أعيش أنا وعائلتي منها".
بسبب المنطقة العازلة، التي فرضها جيش الاحتلال على مساحة، تمتد ما بين 300 و500 متر غرب وجنوب الخط المذكور، تمت مصادرة مئات الدونمات من الأراضي الزراعية، من بين من فقدو أراضيهم، المزارع خالد جراد، والذي يمتلك أرضاً شرقي مدينة رفح، يشاهد جراد أرضه، صباح مساء، دون أن يستطيع الاقتراب منها، بأسى يقول: "ماذا نفعل، الحال يسوء أكثر، أما جاره أحمد إبراهيم فيعتبر حاله أسوأ، إذ يخشى إبراهيم من الفكرة التي أعلنها وزير الجيش الإسرائيلي موشيه يعالون في 12 نوفمبر/تشرين الثاني، بإقامة خندق عميق، يمتد عشرات الكيلو مترات على طول الحدود الشرقية للقطاع، ما سيؤدي إلى ضياع أرضه وأراضي المئات من أقرانه.
تدمير ممنهج
منصور بريك، رئيس بلدية الشوكة التابعة لمحافظة رفح، يقسم اعتداءات الاحتلال وممارساته بحق المزارعين إلى نوعين، الأول مباشر، ويتمثل في التوغلات والاجتياحات، وأوسعها كان خلال عدوان صيف 2014، وما زالت آثاره قائمة، إضافة إلى ممارسات غير مباشرة، وتتمثل في منع التصدير، من المساحات المزروعة التابعة للبلدية، التي تبلغ 22 ألف دونم، أكثر من نصفها يقع ضمن المناطق الخطرة.
يوضح بريك أن آليات الاحتلال خربت نحو 16 ألف دونم من أراضيها الزراعية، أي ما يقارب 72% من مجموع الأراضي. وبيَن بريك أن الضرر لم يقتصر على تجريف الأراضي واقتلاع الأشجار المثمرة، إذ عمد الاحتلال خلال العدوان إلى تدمير شبكات الري، وخطوط المياه وثلاثة خزانات مياه رئيسية، تمد مزارع وحقول البلدة بمياه الري، وهو ما تسبب في جفاف وموت الأشجار والخضروات.
وتابع لـ"العربي الجديد": "البلدية ومن خلال منح من مؤسسات دولية، وبجهود ذاتية ورغم الحصار وصعوبة الأوضاع، استطاعت تسوية واستصلاح جزء كبير من الأراضي، وأعادت إصلاح شبكات وخطوط وخزانات مياه، لكن الأمور ما زالت صعبة، إذ إن المزارعين ممن استطاعوا استصلاح أراضيهم، وأعادوا زراعتها، صدموا بمنع الاحتلال تصدير خضرواتهم، واضطروا لإنزالها إلى أسواق القطاع الضعيفة القدرة الشرائية، بسبب فقر السكان العائد إلى الحصار".
وزارة الزراعة
ووفق وزارة الزراعة في قطاع غزة، فإن استهداف الاحتلال لمناطق شرق القطاع، متواصل منذ نهاية العام 2000، لكن هذا الاستهداف بلغ ذروته في عدوان صيف 2014. تؤكد الوزارة أنه خلال 51 يوماً من العدوان، حلت كارثة بالقطاع الزراعي برمته، بخاصة في مناطق شرق القطاع، بلغت الخسائر 200,4 مليون دولار، إذ استهدف الاحتلال بشكل مباشر أكثر من نصف المساحة الزراعية في القطاع التي تقدر بـ 140 ألف دونم، وتضررت المساحة الباقية بشكل أو بآخر نتيجة عدم القدرة للوصول إليها نتيجة الجفاف.
الدكتور نبيل أبو شمالة، مدير عام السياسات والتخطيط بوزارة الزراعة، قال إنه تم استهداف آبار المياه وخزانات المياه العلوية وبرك تجميع المياه والخطوط الناقلة للمياه، إضافة إلى تدمير الأراضي الزراعية وتجريف الأراضي الزراعية الواقعة بمحاذاة الحدود الشرقية، والبالغة مساحتها حوالي 34,500 دونم زراعي تم قصفها وتجريفها بالكامل.
وأضاف أن قيمة الخسائر غير المباشرة الناتجة عن تكلفة الفرصة البديلة وتعطل الأيدي العاملة في القطاع الزراعي، تقدر بـ 200 مليون دولار أميركي، وأشار إلى أن أحد أهم نتائج العدوان هو نقص حاد في الإنتاج الزراعي المحلي، وارتفاع أسعار المحاصيل، مما يهدد بالقضاء على الأمن الغذائي في قطاع غزة بشكل نهائي.
تهاوى الزراعة في غزة
منذ 15 عاماً، وقطاع الزراعة في غزة يتلقى ضربات متتالية من الاحتلال، بخاصة في المناطق الشرقية، هكذا بدأ الخبير الاقتصادي، الدكتور ماهر الطباع، تقييمه للوضع، قائلا لـ"العربي الجديد": "قطاع غزة فقد قدرته على الإنتاج مقارنة بما قبل العام 2000، مناطق شرق القطاع كانت من أكثر المناطق إنتاجاً للحمضيات على سبيل المثال، وهذا جعل القطاع من أكثر المناطق تصديراً لأنواع مختلفة من الفواكه، لكن ومع توالي عمليات التجريف الواسعة للأراضي التي انتهجتها إسرائيل لسنوات، تراجعت المساحة المزروعة في قطاع غزة من الحمضيات، فقبل عدة عقود كانت تصل إلى حوالي 75 ألف دونم، انخفضت لاحقاً إلى الثلثين، ثم مع مشاريع إعادة الزراعة وصلت حالياً إلى 17 ألف دونم، منها 9500 دونم مثمر، وتنتج 22,300 طن من الحمضيات، ومساحة 7500 دونم غير مثمر، وما زال هناك عجز كبير فيها".
ولفت إلى تراجع السلة الغذائية للمواطن الفلسطيني في غزة فيما يتعلق بالخضروات الموسمية، التي تصل بمعظمها من مناطق شرق القطاع، بالإضافة إلى فقدان آلاف المزارعين مصادر دخلهم وانضمامهم إلى خانة العاطلين.
توقيت التصعيد ضد المحاصيل
يوثق محمود الحشاش، أمين سر جمعية المزارعين الفلسطينيين، توقيت الاستهداف الإسرائيلي، للأراضي المزروعة في غزة، قائلا: "التصعيد ضد المزارعين يتم في أوقات معينة من العام، ببساطة هي بداية أو نهاية مواسم زراعية، الأمر ليس عشوائيا".
يقول الحشاش : "في بداية كل شتاء يحدث تصعيد وإطلاق نار، ويحرم المزارعون من الوصول لأراضيهم، وهو موسم ينتظرونه بفارغ الصبر لزراعة أراضيهم، ثم يحدث تصعيد أكبر وأخطر مع حصاد محصولي القمح والشعير، فقد وثقت الجمعية خلال السنوات الخمس الماضية، تعمد جيش الاحتلال إطلاق قذائف حارقة تجاه المحصول الجاف بعد حصاده وجمعه في أكوام تمهيداً لدرسه "استخراج الحبوب"، وهذا يتسبب باحتراقه وبالتالي خسائر فادحة للمزارعين، ويضيع تعب ومجهود ستة أشهر، وأموال استثمروها في محاصيلهم".
ووفق المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، فإن عام 2015، وهو عام من المفترض أنه شهد هدنة ما بين إسرائيل وفصائل المقاومة في قطاع غزة، شهد إصابة 15 مزارعا بالرصاص، خلال تواجدهم داخل أراضيهم القريبة من خط التحديد، إضافة إلى اعتقال عدد آخر.
مساعدة دولية
تدخلت سهير زقوت، الناطقة باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر في قطاع غزة، من أجل مساعدة المزارعين المتضررين بسبب الحروب والنزاعات، في المناطق الخطرة شرق وشمال القطاع، خلال العام الحالي تم وفقا لزقوت، مساعدة المزارعين باستصلاح 10,500 دونم مجرفة ومتضررة، وتقديم بذور وأسمدة، وتسهيل وصول جرافات ومحاريث لتسوية الأرض، والمساهمة في شق وتعبيد طرقات زراعية لتسهيل وصول المزارعين إلى أراضيهم.
وأكدت زقوت أن "المساعدات تركزت على زراعات بعلية، تعتمد في ريها على مياه الأمطار كمرحلة أولى، ما يعني عدم حاجة المزارع للوصول إلى أرضه كثيراً لتجنب تعرضه للمخاطر، واللجنة تضع في خططها التنسيق مع الجانب الإسرائيلي، لتسهيل وصول المزارعين والمعدات للأراضي في موسم الحصاد، لتمكين المزارعين من جني المحصول بشكل آمن". وبينت أن اللجنة تحاول عبر تدخلها توفير حماية ومساعدة للمزارعين، لكن استمرار تدخلها مرهون باستقرار الأوضاع الأمنية، إذ إن الوضع في غزة لا يمكن التنبؤ به مستقبلاً.