بعد أن عاش ما يقرب من 50 عاماً في الخارج، عاد زاهي خوري إلى الوطن وحقق ما كان يعتبره كثيرون أمرا مستحيلا. فقد افتتح مصنعاً لتعبئة زجاجات "الكوكا كولا" في قطاع غزة تكلّف 20 مليون دولار أمريكي.
ينحدر خوري من عائلة فلسطينية مسيحية، وكان عمره تسعة أعوام عندما قررت العائلة ترك موطنها في يافا. كان ذلك في عام 1948؛ عندما تأسست إسرائيل. وبعد ورود أنباء عن المعارك الدائرة، التي كان ينشرها الناس وهم يركضون في أرجاء البلدة، قرر والده الرحيل.
كان خوري يشكك في قرار والديه ذاك وينتقده دوما. وقال خوري، الذي يبلغ الآن 77 عاما، إنه "من الخطأ الرحيل". وأضاف: "إنه موطنك".
وهذا ما دعا خوري إلى العودة إلى وطنه. وكان الرجل قد تقلد مناصب إدارية عليا حتى أنه أصبح رئيسا لتكتل شركات سعودية عملاقة هي "مجموعة العليان". وفي عام 1997، قرر أن يعود إلى وطنه ليدير شركة تحمل تصريحا من شركة "كوكا كولا" العالمية.
واليوم، أصبحت تلك الشركة هي ثالث أكبر شركة في قطاع غزة فيما يتعلق بتوظيف العاملين، وعددهم 450 عاملا، وتصل تكلفة تشغيل عملياتها حاليا إلى نحو 100 مليون دولار أمريكي.
وبحسب توقعات الكثيرين، فإنه خوري سيقدم في الشهر الحالي على تنفيذ أمر قد يبدو مستحيلا في قطاع غزة. فسوف يفتتح الرجل منشأة صناعية جديدة لتعبئة زجاجات الكوكا كولا بتكلفة 20 مليون دولار أمريكي.
بعد طفولته التي قضاها لاجئاً في لبنان، درس خوري في الجامعة في ألمانيا التي كان قد وصلها مرتدياً معطفاً حصل عليه من مساعدات تقدمها منظمة الأمم المتحدة.
إليزابيث ماكبرايد
وستكون المنشأة أول خطوة تنموية اقتصادية هامة لعقود من الزمن في القطاع، مع وجود معدل بطالة مرتفع هناك بلغ 42 في المئة، وهو من بين أعلى المعدلات في العالم.
سيكون ذلك المجمع الصناعي مملوكاً لشركة خوري، وسيوظف بشكل مباشر 250 من العاملين، ويتضمن ذلك أشخاصا يعملون في مجال التجهيزات، ومقاولين ثانويين. كما سيوفر المجمع فرص عمل لما يقرب من ألف شخص آخر.
بعد سطوع نجم خوري في مراكز مهنية متقدمة، وادخاره للكثير من الأموال، كان باستطاعته التقاعد في ولاية فلوريدا الأمريكية، حيث يملك منزلاً هناك. لكنه بدلاً من ذلك، انضم إلى ملايين الناس حول العالم ممن تجاوزوا عقدهم الخامس من العمر ليشرعوا في أعمال ثانية يكرسون لها ما تبقى لهم من طاقة.
فهؤلاء إما يبدأون في تدشين مشاريع تجارية، أو يتطوعون للقيام بأعمال خيرية، أو يحاولون تحقيق شغف طال أمده، أو مزيجاً من هذا وذاك. وبالنسبة للوافدين أو اللاجئين، فإن المسار يؤدي أحياناً إلى الوطن الأم.
من الطبيعي أن لا يذهب كل شخص إلى أقصى الحدود التي وصلها خوري، حيث عاد إلى واحدة من أقسى الأماكن للعيش في العالم، ناهيك عن إدارة مشروع تجاري فيها.
يقول خوري: "عندما تبدأ بامتياز لشركة ’ماكدونالد' أو ’كوكا كولا'، فإنك تبرز ذلك البلد على خارطة العالم". وقد أوضح وجهة نظرة تلك والتي بدأت تتبلور بعد اتفاقية "أوسلو" عام 1993.
حكاية لاجيء
يحظى خوري بمكانة مرموقة في عالم التجارة والأعمال، ويعرف بتحالفه مع شركة "كوكا كولا" العالمية، إضافة إلى تفاؤله الجامح. وقد مكنته جميع هذه الأمور من التمسك بشدة بفكرته، لما يقرب من 20 عاماً، من أجل البدء في مشروع تجاري في قطاع غزة.
بعد طفولته التي قضاها لاجئاً في لبنان، درس خوري في الجامعة في ألمانيا التي كان قد وصلها مرتدياً معطفاً حصل عليه من مساعدات تقدمها منظمة الأمم المتحدة. ثم حصل خوري على شهادة الماجستير في إدارة الأعمال من كلية "إنسيد INSEAD" في "فونتينبلو" الفرنسية.
وبعد ذلك عمل لصالح مصانع أمريكية مثل شركة "رينولدز للمعادن" و "فيلبس دودج" من عام 1967 إلى عام 1972 ممارساً أعماله الأولية كريادي في حقبة عُرفت بنزاعاتها بين أرباب العمل والعاملين.
وقال خوري واصفاً الفترة التي قضاها في منشأة "فيلبس دودج" في البرازيل: "كانت المنشأة التي أعمل فيها هي الوحيدة بدون اضرابات".
وقد مكنته الفترة التي عمل فيها لصالح شركات أمريكية من الحصول على الجنسية الأمريكية. وفي عام 1973، كان خوري أحد أعضاء الفريق الإداري الذي أسس فرع بيروت للبنك الاستثماري "أمريكان إكسبريس".
عندما غادرتها، كانت يافا مدينة ذات حضارة وثقافة عالية. كان فيها النادي الريفي الوحيد، وكنائس، وكثير من مظاهر الأناقة.
زاهي خوري
كما وقّع اتفاقاً إدارياً منحه حصة أسهم في "مجموعة العليان"'، وهي شركة سعودية تملك امتيازات شركات عديدة من بينها "كوكا كولا"، و "نابيسكو"، و "جنرال فوودز". ولكونه يعمل ما بين نيويورك والمملكة العربية السعودية، فقد قضى 20 عاماً مع مجموعة العليان، وأحيل على التقاعد عندما كان رئيساً لشركتها القابضة في عام 1994.
لكنه لم يتقاعد ليمضي أيام حياته في الاستمتاع بأوقات الفراغ. وقال: "سأتوارى وأقضي أوقات فراغي عندما أستلقي إلى الأبد". ثم قضى خوري عامين محاولاً إقناع "كوكا كولا" بفتح ذلك المصنع في غزة. وأخيرا،ً خرجت أولى المنتجات من المصنع في عام 1998.
وقال: "أحسست بأني أصبحت مرة أخرى مواطناً من الدرجة الأولى"، قالها وهو يصف عودته بعد سنين عديدة من الغربة. وعن مسيرته المهنية الطويلة هنا وهناك، يقول: "كنت أشعر وكأني ضيف."
غير أن المكان، الذي يتذكره في قصاصات ذكرياته الطفولية، قد تغير بالطبع. ويقول: "عندما غادرتها، كانت يافا مدينة ذات حضارة وثقافة عالية. كان فيها النادي الريفي الوحيد، وكنائس، وكثير من مظاهر الأناقة."
ومع ذلك، فقد تغيرت يافا خلال السنين التي عاد فيها إليها. لقد تحوّلت من مستوطنة عشوائية من مستوطنات تل أبيب إلى إحدى المنتجعات الشعبية على الشاطيء. ولكنه، كما يقول، لا يزال يشعر بنوع من الخسارة عند مقارنتها بما كانت عليه في الماضي.
الإيمان والتحدي
إذا كنت تنوي البدء في مشروع طموح تقضي فيه حياتك التقاعدية، فما يساعد في الأمر هو أن تكون شغوفاً بالهدف المرجو من وراء هذا المشروع، حسب قول فريدمان. إن جرعة صحية من التحدي تعد أمرا مهما، لأنك لن تتحدى فقط ما هو متوقع من كبار السن، بل لأنك ستخاطر أيضاً بغرورك وسمعتك.
كان السبيل الذي سلكه خوري محفوفاً بصعاب أكثر مما توقع. فالصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين كان ولا يزال متواصلا. وقد أدار خوري مصنعه خلال حقبتين من الانتفاضة، وخلال حرب غزة في العام الماضي، وكان أثناءها يستورد التجهيزات والمواد الأولية عبر نظام تفتيش إسرائيلي مشدد.
وخلال فترة الانتفاضة الثانية في عام 2002، أغلقت العديد من الطرقات. يتذكر خوري ذلك ويقول ضاحكا: "كنا ننقل منتجاتنا على ظهور الحمير".
لقد عُد افتتاح خوري لذلك المصنع، وهو أحدث إنجازاته، حدثاً فذاً آخر، قال عنه كيتو دي بوير، رئيس بعثة ’مكتب اللجنة الرباعية حول الشرق الأوسط'، وهي المجموعة الدبلوماسية المقيمة في القدس والمنوط بها تقليدياً التوسط بين الاسرائيليين والفلسطينيين: "من الصعب وصف ذلك الأثر الفعال للإنجاز الذي حققه".
وأضاف: "تقف منشآته منتصبة بين كل ذلك الخراب الذي يعد عملياً دمارا شاملا خلّفته تلك الحرب الأخيرة."
كانت مجازفة مالية كبرى تلك التي قام بها خوري في العودة وتأسيس تلك الشركة. فقد استثمر من موارده الخاصة مبلغ ثلاثة ملاييين دولار أمريكي لبناء المصنع، إضافة إلى استثمارات شريكين آخرين.
إن نجاح شركة كوكا كولا في هذا الجزء من العالم هو أمر ينطوي على معجزة.
سالي أوزبيرغ
علاوة على ذلك، فقد استثمر في مشاريع أخرى في المنطقة، بما في ذلك الإسهام في تأسيس شركة "بالتل" للاتصالات. وساهم أيضاً في إنشاء صندوق رأسمال للمشاريع يستثمر في شركات ناشئة في مجال التقنيات، بما في ذلك خلق منفذ لمساعدة العملاء في اتخاذ قراراتهم عند شراء سيارة. أضف إلى ذلك مساهمته في تصميم وسيلة تختص بتوجيه الدعوات في العالم العربي.
هل كان الأمر يستحق كل هذا؟ يقول خوري: "ينتابني شعور بأني أنجزت شيئاً. إني أتعامل مع الكثير من الشباب وهم يعطونني الأمل بأن المستقبل أمامنا عظيم." لكنه، حسبما أضاف، لا يعتقد بأنه سيرى السلام بأم عينيه.
الفشل ليس خيارا
لقد أصبح خوري ناطقاً باسم مجتمع الأعمال والتجارة الفسلطينية. ويعني ذلك أنه يمشي بمسار محفوف بالمخاطر، فهناك مصالح وطنه ومصالح شركائه الآخرين، وشركة كوكا كولا، وجيرانه السياسيين. إن أياً من آرائه معرضة للانتقاد الشديد في منطقة مشحونة بالنزاعات.
يطلق الذين يعرفون خوري عليه وصف داعية سلام، ويقولون إنه قد غيّر الكثير. في شهر مايو/أيار من هذا العام، قام الفائزون بجائزة نوبل للسلام والاقتصاد بمنحه، هو وأربعة آخرون من رجال الأعمال العالميين، إحدى الجوائز السنوية من جوائز "أوسلو للأعمال من أجل السلام".
"إن نجاح شركة كوكا كولا في هذا الجزء من العالم هو أمر ينطوي على معجزة"، حسب قول سالي أوزبيرغ، المديرة التنفيذية لـ "مؤسسة سكول"، في كاليفورنيا، وهي مؤسسة تقدم منحاً مالية بمبلغ 17.9 مليون دولار أمريكي سنوياً، وفقا لموقع "إينسايد فيلانثروبي" الإخباري المعني بالأعمال الخيرية.
وقد ساعدت هذه المؤسسة في أعمال زاهي خوري، مستثمرةً في صندوق رأسماله للمشاريع.
وقالت أوزبيرغ: "قبل زاهي، كانت نظرتي إلى هذا الجزء من العالم 'ميؤوس منها'، أما الآن، فإنني أرى فيها إمكانيات تكفي من أجل تقرير المصير."
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Capital.