هكذا هي غزة المحاصرة. رغم حصارها إلا إنها أمٌ بقلبها الحنون والكبير ترحب بمن يلجأ لها، وهنا احتضنت العائلات السورية التي هربت من الأحداث التي عصفت ببلادهم، ووفرت لهم الأمن بما استطاعت بعيدًا عن العدوان المتكرر. وجد السوريون الذين يحملون النكهة المميزة بالأطعمة الشامية في غزة مكانًا مناسبًا لفتح مشاريع جديدة، بما لم تعتد عليه المدينة المحاصرة.
تدريجيًا بدأت تغزو شوارع غزة النكهة السورية التي لطالما كانت غائبة عنها، فحصار غزة، ليس فقط حصارًا اقتصاديًا، فهو يحاصر ما هو جديد في عالم الأطعمة التي تدخل غزة. وأيضًا يلعب الحصار الاجتماعي والسياسي بشكل أساسي في نفوس الغزيين، لكن العائلات السورية لم تتوقع أن ترى ما شاهدته في غزة. تعيش وسط هذا المجتمع المحاصر، وكأنها في وطنها، فتجد المودة والمحبة من الغزيين، وتقارب العادات والتقاليد السورية بينهم وبين الغزيين، وهكذا تعيش بعض العائلات السورية الهاربة في غزة وطنها الثاني.
وريف قاسم حميدو هو أحد أبرز السوريين المعروفين في غزة. أصبح نجمًا فيها، ويعمل "شيف" في مطعم له أطلق عليه اسم سوريانا. اقترب المطعم من عامه الأول، ويقدم الوجبات السورية والساندويتشات التي تركز عليها غالبية مطاعم غزة. لكن هذا المطعم يختلف عن المطاعم فهو يحمل اسم الأم والوطن الجريح، وبات حلمًا لوريف وزملائه. ومجرد أن يدخل الزبون يشتم معه الرائحة السورية وبعض الأغاني السورية، حتى لافتة المحل يزينها الطربوش والشاربان المرفوعان اللذان تميز بهما الرجل الشامي القديم.
ترعرع وريف في مدينة حلب السورية، ودرس الهندسة الميكانيكية، إلا إنه لم يعمل فيها وعمل في الطعام. وكان يملك مطعمًا في مدينته، يُقبل عليه الكثيرون ومن الفنانين السوريين أيضًا. لكن بعد الأحداث السورية ودمار غالبية المطاعم بالقرب من مطعمه، لم يجد أي لزوم له للبقاء في المدينة التي دمرت ولم يعد فيها أي مجال للعمل. فانتقل إلى تركيا للعمل، ومن بعدها سافر بحرًا إلى مصر وعمل فيها طباخًا في مطعم.
وأمضى وريف في مصر ثمانية أشهر. خلال تلك الفترة تلقى عرضًا للعمل في غزة التي تنقصها المأكولات الشامية، لكن أصابته الحيرة لأن الأوضاع السورية تتشابه مع غزة، ولا يوجد فيها أمان مستقبلي، لكنه اتجه للقطاع لمدة عشرة أيام واطمأن للحياة فيه، وفرصة العمل هناك.
يشرح رحلته: "الحياة في غزة قريبة كما هي الحياة في سورية، من نواحي العادات والتقاليد كثيرًا، وهنا شعرت بمحبة الناس لي أني سوري وأعيش بينهم، والكل يقبل علي بكل سعادة"، وقبل أن يتملك مطعم سوريانا، عمل وريف في مطعم "أزمير" في غزة، وخلاله كسب سمعة جيدة وعرفه الكثيرون، وبدأ يتلقى عروض العمل، إلى أن وصل وأصبح اليوم الشيف وريف والكل يعرفه وعبر التلفزيون شاهدوا برامجه، وقريبًا سيطل على الفلسطينيين من جديد في برنامج للمأكولات.
من جهة أخرى، يقبل الغزيون على مطعم آخر يحمل النكهة السورية البلدية، وهو مطعم "ياسمين الشام"، الذي يحمل اسم الشام، ويقع في أبرز المناطق الحيوية في قطاع غزة، على مفترق السرايا، ولا يكاد أحد يمر في تلك المنطقة، حتى يشاهد عمال المطعم يقلبون العجين ومعهم يرشونها بأطعمة مختلفة تجذب المارين لأكلاتهم، وأبرزها، الصفيحة الشامية والمحمرة الشامية وشرحات اللحمة.
ويشرف على مطعم ياسمين الشام الشاب مهنّد النابلسي، وهو سوري من العاصمة دمشق، عمل لدى العديد من الدول الخليجية شيف في البيوت الملكية والمطاعم الكبيرة، لكن بعد أن عاد لوطنه، لم يجد أي مكان له. بحث عن مكان ليفتتح مطعمًا ويبقى في وطنه، لكنه لم يجد، وغادر من سورية إلى مصر للعمل فيها. عمل في مطاعم تقدم الوجبات السورية والإشراف على حفلات مأكولاتها سورية، لكن بعدها عرض عليه سوري يقيم في غزة أن يأتي إليها ويعمل فيها، وبالفعل سافر إلى غزة واستقر فيها.
وكانت أولى المطاعم السورية في غزة، تحمل اسم "الدمشقي" عمل فيها مهند وكان أول شيف يعمل بداخل غزة. وخلالها أقبل الغزيون بالمئات يوميًا على هذا المطعم لتناول النكهة الجديدة. ويقول مهند إن "غزة هي إحدى المدن التي تتبع بلاد الشام منذ قديم الزمان، لكن نظرًا لحصارها على مر السنين والعدوان الذي يحصل فيها، فدفعها الاحتلال لتبتعد عما يربطها بثقافة المأكولات الشامية وغيرها من عادات حديثة، وهذا ما دفعنا لوضع أرضية قوية في العمل فيها".
وينوه مهند لوجود عدد كبير جدًا من السوريين داخل مصر، الذين يعانون من قلة فرص الوظائف، وفي مصر يتلقون راتبًا قليلًا جدًا. يعملون في الغالب، إلا إنهم لا يستطيعون دخول غزة بسبب عدم تملكهم تصاريح. سعى مهند بنفسه بالسعي لإدخال بعض السوريين والعمل معه في مطعمه، إلا إنه فشل في ذلك. فالحصار ليس من جهة واحدة!
نقلا عن صوت الترا