كان لافتاً في بيان مجلس الوزراء الفلسطيني بشأن إقرار الموازنة العامة لدولة فلسطين للسنة المالية 2016، غياب أية أرقام مالية مرصودة لمشاريع إعادة إعمار قطاع غزة، وفقاً لما كان عليه الحال عند إقرار موازنة العام الماضي 2015، في أعقاب المؤتمر الذي عقد في القاهرة ورصد عدة مليارات من الدولارات لإعادة إعمار ما خلفته آلة الحرب الإسرائيلية في غزة صيف العام 2014.
هذا الأمر يضاف أساسًا إلى "الرصيد الصفري" المخصص للوزارات في قطاع غزة، وهو ما دفع بصحيفة "الاقتصادية" للتواصل مع خبراء ومحللين اقتصاديين لسؤالهم عن نصيب القطاع من موازنة 2016.
وكان الرئيس الفلسطيني محمود عباس صادق يوم السبت الماضي على موازنة العام 2016 بعدما أحالها إليه مجلس الوزراء برئاسة رامي الحمد الله، حيث بلغت 4.25 مليارات دولار، منها 3.9 مليار دولارات للنفقات الجارية، و350 مليون دولار للنفقات التطويرية.
أستاذ علم الاقتصاد في جامعة الأزهر بغزة د.معين رجب، وضع أحد احتمالين يمكن أن يفسرا لسبب غياب أية مبالغ في الموازنة الفلسطينية العمومية لصالح إعادة إعمار غزة، أولهما: أن السلطة الفلسطينية لاحظت أن الدول المانحة ربما تتعامل في بعض الأحيان مباشرة مع غزة دون المرور عبرها، أو أن لها إشراف وتتابِع ما يصل إلى غزة وبالتالي لا حاجة لتضمين ذلك في الموازنة السنوية التقليدية.
ونوه رجب إلى أن الموازنة السابقة (2015) والموازنة الحالية (2016) لم تتطرقا إلى تحديد مخصصات لفروع الوزارات في غزة، وبالتالي فإنهما يعتبران امتدادًا للموازنات السابقة (بعد 2007) التي ظلت تجسد حالة الانقسام بين شقي الدولة الفلسطينية المنشودة.
وكان رئيس اللجنة القانونية في المجلس التشريعي د.محمد فرج الغول انتقد عدم إدراج وزارات قطاع غزة في موازنة 2016، واصفًا ذلك بـ"الإجراء غير القانوني والانتقائي".
وعدّ الغول وهو نائب عن حركة حماس ذلك "خرقا" من قبل الرئيس محمود عباس "للقوانين الفلسطينية وسلبا لصلاحيات المجلس التشريعي، وإصرارا على ممارسة سياسة التضليل والاستخفاف بحقوق الشعب الفلسطيني ومؤسساته الشرعية"، وفق ما جاء في بيان صادر عن المجلس التشريعي بغزة.
المحلل الاقتصادي د.نصر عبد الكريم أشار من جانبه إلى تضمين ميزانية 2015 قرابة 800 مليون دولار كموازنة تطويرية لإعمار غزة، أما في ميزانية 2016 فيبدو واضحًا أن هذا المبلغ لم يعد قائمًا.
وقال عبد الكريم: "واضح أن هذا المبلغ أخرج خارج الموازنة ولم يظهر، أو أنه فعلًا لا يوجد مخصصات لهذا الموضوع (إعادة الإعمار) وفق المانحين".
بينما أكد الخبير الاقتصادي د.خليل النمروطي أن ما ينفق على قطاع غزة من جانب السلطة الفلسطينية "لا يعتبر شيئًا عاديًا بالنسبة لحجم الإيرادات التي يتم الحصول عليها من حصة القطاع".
وقال: "بصفةٍ عامةٍ، فإن الموازنة العامة للسلطة الفلسطينية فيها مشكلة أساسية وهي أنها تعطينا البنود العامة دون تفصيل واضح. فمثلًا عندما تقول نفقات تطويرية أو تشغيلية فإنها تتحدث عنها بشكل عام".
ونوه النمروطي إلى أن إيرادات السلطة الفلسطينية تعتمد بشكل أساسي على أموال المقاصة (التي تجبيها إسرائيل نيابة عن الفلسطينيين) التي وصلت في 2014 إلى أكثر من 2 مليار دولار، حصة قطاع غزة منها من 40 إلى 50%، متسائلًا في هذا السياق عن المبالغ المالية التي دفعت لغزة سابقًا.
وأشار النمروطي إلى ورشة عمل سابقة عقدتها مؤسسة "أمان" حول موازنتي 2014 و2015، وظهرت خلالها انتقادات واضحة كون الموازنات تعطي خطوطا عامة، بينما هناك في بعض المناطق الفلسطينية لبس واضح بشأن أوجه الإنفاق والإيرادات، معقبًا: "هذا يوصلنا إلى نقطة: هل الموازنة توضح مثلا كم ستنفق السلطة على الضفة الغربية وكم على قطاع غزة؟.. هذا طبعًا من الخلل الموجود".
وشدد على ضرورة الإفصاح بشكل واضح ودقيق حول ماهية الإيرادات المتوقعة والقطاعات بالتفصيل سواء كانت من المقاصة أو الضرائب المحلية أو المساعدات الدولية وغير ذلك.
من جانب آخر ذكر مجلس الوزراء الفلسطيني في بيان إقرار الموازنة، أن الفجوة التمويلية تبلغ 386 مليون دولار بمعدل شهري 32 مليون دولار، مما سيضطر الحكومة إلى اتخاذ إجراءات تقشفية لتغطية هذه الفجوة.
وتعقيبًا على ذلك، يوضح عبد الكريم، أن الفجوة التمويلية هي ما يتبقى من نفقات ليس لها موارد مالية بعد الإيرادات والمساعدات الخارجية، وبالتالي فإن هذه الفجوة مرهون كبرها أو صغرها بمدى صحة تقدير الإيرادات والنفقات والمساعدات، فإذا ما انتهى عام 2016 والإيرادات أقل من المتوقع والنفقات أعلى من المتوقع والمساعدات أقل مما خطط له، عندها تزيد الفجوة فعليًا. وأوضح عبد الكريم أنه بعد مرور سنة في الموازنة وبقاء هذه الفجوة قائمة، فإنها تتحول إلى دين عام على شكل متأخرات للقطاع الخاص، وبالتالي تسجيل زيادة في الدين العام.
وحول التقديرات التي بنى عليها مجلس الوزراء توقعاته بأن يبلغ إجمالي الإيرادات نحو 3 مليارات دولار أي زيادة بنسبة 2.8% مقارنة بأداء العام 2015، أجاب عبد الكريم قائلًا: "هذه التقديرات مبنية على افتراض سيناريو استمرار الحالة على ما هي عليه خلال العام الماضي، وكذلك التجارب السابقة لوزارة المالية، وبالتالي تتوقع الحكومة نمو الإيرادات بنفس نسبة نمو الناتج المحلي 2.5% وهذا يعني افتراضًا أن الإيرادات ستنمو بنفس القدر في عام 2016".
لكنه أكد أن هذه التقديرات ستكون مرهونة صحتها من عدمها للاختبار الفعلي الميداني، بمعنى لن تظهر صحتها من عدمه، الا بعد مرور فترة من الزمن لتقييم هذه التقديرات فقد تأتي أقل من المبالغ الفعلية المتحصلة أو أعلى.
وبين أن هذه التقديرات فيها نوع من التفاؤل خصوصا مع اتسارع دائرة الهبة الشعبية في الأراضي الفلسطينية ولجوء اسرائيل إلى فرض عقوبات اقتصادية على الفلسطينيين، وما يؤدي ذلك إلى صعوبة توقع نمو الناتج المحلي ونمو الايرادات.
بينما قال رجب، إن الموازنات تُعدُّ عن عام قادم بشكل تقديري وتقوم على أسس علمية، فقد تكون السلطة توقعت تحسنا في توسيع القاعدة الضريبية وفيما يتعلق بحجم حالات التهرب الضريبي.
ورأى أنه بالإمكان الحفاظ على مستوى متزايد من الايرادات إذا كانت هناك سياسة حكيمة رشيدة تجاه التعامل مع بنود الايرادات من خلال الجهات الجبائية المسؤولة عن ذلك وفي حدود التشريعات القائمة.
أسعار النفط
وحول تأثير الانخفاض الحاصل حاليًا في أسواق النفط على خزينة السلطة الفلسطينية التي تتلقى دعما مباشرًا من بعض الدول العربية النفطية، قال رجب إن هذا الانخفاض له تأثير كبير خصوصًا أن هذه الدول لها التزامات مع دول أخرى بينما لجأت هي إلى اتباع سياسات تقشفية ومنها السعودية (أكبر دولة عربية داعمة للسلطة) التي سجلت عجزًا كبيرًا في ميزانيتها لهذا العام، إضافة إلى انشغالها بتمويل النفقات العسكرية في اليمن.
حول هذه النقطة اتفق د.النمروطي مع رجب، مشيرًا إلى أن الانخفاض الحاصل في أسواق النفط لأدنى مستوى من 11 عامًا ( 31 دولارًا للبرميل الواحد حاليًا) سيؤدي بشكل أكيد إلى تغيير أولويات الدول العربية والخليجية التي تقدم دعمًا لمناطق مختلفة وبالتالي سيكون هناك تراجع في الفترة القادمة أو تلكك أو تأخر في دعم موازنة السلطة الفلسطينية.
وكان أشار وزير المالية والتخطيط شكري بشارة إلى أن المنح الخارجية تقلصت خلال العام 2015 إلى نحو 700 مليون دولار أي تغطي 60% من العجز المالي للموازنة بعدما كانت في الفترة بين 2013 و2014، مليار دولار، ووصلت في الفترة من 2007 إلى 2012 إلى حوالي 1.2 مليار دولار (تغطي 80% من العجز المالي).
أمام هذه المعطيات وبشأن ما يمكن للسلطة القيام به من إجراءات تقشفية، قلل عبد الكريم من جدية السلطة حول هذا الموضوع معتبرًا أنها توجهات غير حقيقة وتبقى في إطار الشعارات أو المحاولات والنوايا التي أعلنت عنها الحكومات المتعاقبة أكثر من مرة بهدف التغلب على الأزمة المالية التي تعاني منها.
وأكد عبد الكريم أن هذه المحاولات لم تنجح بشكل معقول بل على العكس لُمِس منذ سنوات أن النفقات الجارية للسلطة تزيد عامًا بعد آخر بمعزل عن التوجه نحو التقشف.
ويكمن ذلك بحسب عبد الكريم في واحد من احتمالين، إما أن الحكومة غير جدية لأن هناك أعباء وتكاليف سياسية ستفقد العديد من الأشخاص بعض المزايا وبالتالي ستضر بأصحاب المصالح، والحكومات غير مستعدة لأن تدخل في هذا الأمر، أو أن الاحتمال الثاني أن السلطة حينما تتجه للتقشف يكون سلوكها ارتجاليًا وغير مدروسًا، وبالتالي تلجأ إلى قرارات انتقائية منعزلة مثل التقشف في مخصصات التنقل، السفر، مكالمات جوال.
لكنه أكد أن كل هذه الأمور لا تشكل ثقلا في الإنفاق وبالتالي لن تظهر تأثيراتها على الحجم المالي ووضع الانفاق.
لذلك يؤكد عبد الكريم أن ما ينقص الحكومة هو خطة تقشف مدروسة بأسبابها وتداعياتها وآثارها ومجدولة زمنيًا، وعندها تخرج بخطة حقيقة ممنهجة تظهر آثارها واضحة على حجم الإنفاق بعد مرور عامين أو ثلاثة من بدء تطبيقها.
فيما أكد النمروطي أن الوضع المحلي والعلاقة مع الاحتلال وحالة الانقسام بين الضفة وغزة إضافة إلى الظروف العالمية تجبر السلطة على ضرورة ترشيد نفقاتها بالحد الأدنى، سواء في المصاريف التشغيلية والنفقات الجارية وغيره.
لكن رجب عبر عن خشيته من أن يكون يطال التقشف من جانب السلطة الفئات المهمشة أو الدخول المتدنية أو يصيب نفقات يجب أن لا تمس أبدًا لأنها تمثل خدمات اساسية او ما يتعلق بالنفقات التطويرية.
بينما نصح النمروطي السلطة الفلسطينية بتقليص النفقات والعمل على زيادة النفقات التطويرية لأنهاأساس وصلب وجوهر عملية النمو الاقتصادي، فحينما يكون هناك زيادة في الانفاق على التطوير تكون هناك زيادة في حجم المشروعات الاقتصادية وبالتالي ستزيد نسبة التشغيل، وتلقائيًا اذا زادت نسبة التشغيل فإن حجم الايرادات العامة التي تحصل عليها السلطة من الضرائب وغيره ستنعكس بالإيجاب وبالتالي يعتبر علاج اساسي لعملية نقص الايرادات سواء الخارجية وعملية تعنت الجانب الاسرائيلي في تسليم ايرادات المقاصة.
المصدر: الاقتصادية