الاقتصادي- آفاق البيئة والتنمية- جبريل محمد- في منطقة شفا الغور الأوسط، وعلى ارتفاع 650 متراً عن سطح البحر، وعلى قرب من مخاضة سهلة العبور في نهر الأردن الذي جف بفعل السياسات المائية للاحتلال وعمليات تحويل مياهه الى النقب منذ خمسينيات القرن الماضي، والذي بسببه كانت شرارة حرب حزيران عام 1967 من بين أسباب أخرى - تقع قرية المغير كحلقة وسيطة بين الأغوار الوسطى وجبال رام الله الشرقية، إذ يرتفع أقصاها -تل العاصور عند سلواد والمزرعة الشرقية- حوالي ألف متر عن سطح البحر، وبدلاً من أن يكون أرضاً رعوية أو حقول زيتون، فقد استولى عليه الاحتلال وحوله الى معسكر برادارات وأدوات مراقبة عسكرية أخرى.
قديما وقبل الاحتلال، كان الرعاة يعبرون بسهولة عبر المخاضة شرقاً في الصباح، ويعودون غرباً في المساء وقد امتلأت ضروع أبقارهم وأغنامهم بالحليب. وفي الصيف كانت بيادر القرية تكتسي بلون القش الذهبي؛ قمحاً وشعيراً وبقوليات، عدا خريفها زيتوني اللون يطل على شفا شرقي شبه صحراوي. لم تكن هناك اسيجة، تفصل القرية وجاراتها الشرقية عن قرى الغور شرقي النهر. ولم تكن هناك حقول ألغام في المراعي تفتك بالمواشي والرعاة، إلى أن دبت دبابات الاحتلال هناك، لتكون سهول القرية ميدان رماية وتدريب، يحظر على أصحاب الأرض دخولها وفلاحتها، فالأمر العسكري واضح: استخدام الارض هنا لأغراض عسكرية أمنية، وبالتالي فالسيادة هنا لعسكر الاحتلال، ولا أحد غيره.
مساحة واسعة وقيود على البناء والاستيطان
المغير قرية صغيرة المساحة كبيرة الفعل، تقع على حافة متوسطة، فهي اقصى شمال شرقي محافظة رام الله، وأقصى جنوب شرقي محافظة نابلس، وعلى تخوم محافظة الأغوار من الغرب. تبعد عن رام الله 27 كم إلى الشمال الشرقي منها، وتبعد عن نابلس 34 كم إلى الجنوب الشرقي. أحيانا كانت تتبع نابلس في ظل الحكم الإداري الأردني، وبعد الاحتلال باتت تتبع إداريا لمحافظة رام الله. تبلغ مساحة أراضيها حوالي 33 ألف دونم، والمنطقة المبنية أو المسموح البناء فيها لا تتعدى 2000 دونم، بمعنى أن المساحة القابلة للاستصلاح والعمل البشري فيها تساوي 94% من المساحة الكلية، سواء في الزراعة أو المراعي. إلا ان هذه المساحة تقع ضمن ما يسمى المنطقة (ج) حسب اتفاقية أوسلو، وبالتالي تخضع لسيادة الاحتلال الكلية. من محافظة رام الله تحيط بالقرية قرى ترمسعيا وأبو فلاح وكفر مالك. ومن محافظة نابلس تحيط بها قرى جالود وفصايل ودوما.
صادر الاحتلال حوالي 720 دونماً من أراضي القرية، وأقام عليها نقطة عسكرية، فيما تحاط القرية بعقدة استيطانية (مجمع من المستوطنات) على أراضي قرى مجاورة، مثل ترمسعيا، وجالود، ودوما التي احرق المستوطنون فيها عائلة دوابشة.
وتقع المغير على مقربة من نبع عين سامية الذي يسقي معظم محافظة رام الله. يعدُّ هذا النبع جزءاً من الخزان المائي الشرقي في فلسطين، لكن غالباً ما تكون المغير عطشى لمياه الشرب قبل ري المزروعات. وبسبب سيطرة الاحتلال على مصادر المياه وتحكمه بنسبة الاستخراج المائي من الآبار الجوفية، فإن أغلب زراعتها بعلية، اذا يبلغ الحد الأقصى للموسم المطري فيها حوالي 400 ملم، وهي نسبة أقل من نسبة الهطول المطري في الجبال، سواء في المزرعة الشرقية أو كفر مالك التي تنعم في بعض السنوات بالهطول الثلجي ايضاً، وأعلى من نسبة الهطول المطري في الاغوار، فالقرية تعتمد بشكل كبير على الزراعات البعلية والرعي، ولا توجد أراضي مروية واسعة في القرية.
صادر الاحتلال جزءاً من أراضي القرية لإقامة نقطة عسكرية عليها، وجزءاً اخر حوله إلى مناطق عسكرية مغلقة زرع فيها الألغام، ونشر فيها قوات عسكرية، ومنع الأهالي ورعاة الأغنام من دخولها. ويحيط بالقرية عدد من المستوطنات، منها مستوطنات تؤمر، وجلجال، وبتسلائيل، ونتيف هجدود. ومن الناحية الغربية للقرية توجد مستوطنات: سيفوت وراحيل وشيلو. أما من الناحية الجنوبية، فتتواجد مستوطنات نيران، ويطاف، وكوخاف هشاحار. ومن الناحية الشمالية تقع مستوطنات معالية أفرايم ومجداليم.
ولتسهيل الحركة على المستوطنين شق الاحتلال شارع رقم (458)، الذي التهم آلاف الدونمات من أراضي القرية والقرى المجاورة. وبات هذا الشارع يشكل تهديداً لحياة مواطني هذه القرى، حيث سهل على المستوطنين اقتحام هذه القرى والعبث فيها وتهديد أرواح الناس فيها؛ ففي السنة الاخيرة وفي مواجهة مع المستوطنين استشهد أربعة من شبان القرية، فيما عاث جيش الاحتلال والمستوطنون خراباً في القرية، بحثا عن مستوطن كان يرعى الأغنام وفقدت آثاره، إذ وجد صريعا بلدغة افعى في جبال قرية دوما.
الزراعة في المغير
فلاح المغير من بين الفلاحين النشيطين، فهو يستخدم أقصى ما توفره الإمكانات المحدودة في عمله الزراعي، سواء في الإنتاج النباتي أو الحيواني، إذ أن الغلة الاساسية للقرية هي الحبوب من قمح وشعير وبقوليات مختلفة، تزرع في مساحة 2500 دونم، وبها حوالي 700 دونم مزروعة بالزيتون، وتشكل المساحات المتبقية -في أغلبها- إما مناطق رعوية، أو بساتين مثمرة وخضروات أخرى.
على صعيد الثروة الحيوانية، يربي أهالي القرية حوالي 4000 رأس من الأغنام وعدد من الأبقار، إضافة إلى تربية الدواجن بواقع 88 ألف طير سنوياً، وهناك حوالي 130 خلية نحل تنتج قرابة طن من العسل سنوياً.
سكان القرية يقاومون الفقر والاحتلال بدون ظهير
بالنظر الى طبيعة الحياة الاجتماعية الاقتصادية للقرية، يقول ياسر الحاج محمد (معلم متقاعد وأحد الناشطين المجتمعيين)، إن القرية تفتقد إلى كثير من الرعاية الحكومية، فعدا المدارس والمجلس القروي، لا توجد مؤسسات أخرى. فرغم بعد القرية عن مركز المحافظة، وتعرضها للتهديد المستمر من جيش الاحتلال ومستوطنيه وإغلاق الطرق، كما حصل كثيرا هذا العام ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فان القرية تفتقد إلى وحدة صحية، إذ أن أقرب الوحدات الصحية إليها تقع إما في ترمسعيا، التي من الصعب الوصول إليها بسبب الشوارع الاستيطانية، وحيث مشفى شافيز في القرية شبه معطل. أو في المزرعة الشرقية البعيدة نسبياً عن المغير. كذلك، فإن الاهتمام بالجانب الزراعي للقرية من قبل الحكومة، يبقى شكلياً واستعراضياً لا يفي أبداً بمقومات الصمود في وجه الهجمة الاستيطانية.
ورغم ذلك، يعتمد مزارعو القرية على أنفسهم وبعض المساعدات من المؤسسات الأهلية، والتي لا ترقى إلى مستوى إحداث تغيير نوعي في واقع القرية، إذا تتسم المشاريع المنفذة في القرية بأنها محدودة ومؤقتة.
هنا بادر الأهالي إلى تشكيل جمعية تعاونية زراعية مختلطة من الرجال والنساء، أنشأت مشتلاً زراعياً، وتعمل على استصلاح مساحات من الأرض لزراعتها بالخضروات والأشجار المثمرة. وتعتبر الجمعية التعاونية في المغير تجربة واعدة يمكن أن تنمو وتتسع وتترسخ إذا ما توفر لها الدعم الحقيقي.
نحن هنا نقدم نموذجا لقرية مقاومة، تجمع في مقاومتها بين الإنتاج وإعمار الأرض من ناحية، والمقاومة المباشرة للاحتلال والمستوطنين، من ناحية أخرى. يمكن أن نرى في المغير الجمع بين قيمة الأرض الوطنية وقيمتها الإنتاجية، حيث يتولد الوعي بهذه القيمة من خلال الانخراط في العمل تحت تهديد الاستيطان، الذي يبقى تحدياً يومياً للمواطنين.
في الآونة الاخيرة برز فعل القرية ومقاومتها الشعبية، لكنه لم يكن أبداً فعلاً منقطع الجذور، بل يستمد تأثيره من خبرة طويلة في مقاومة الاحتلال والاستيطان، والتشبث بالأرض وإعمارها.
الوضع بعد السابع من اكتوبر يتغير، والمهارة تكمن في التقاط عناوين التغيير الأساسية، وأهمها مقاومة الاستيطان بالفعل الجماهيري، الذي يجمع بين قيمة الارض الوطنية والانتاجية.